تسابق المحلّلون السياسيون مع المنجّمين منذ ما قبل بداية العام الطالع بشأن توقعات الحرب وتداعياتها. عزّزت تلك التحليلات أخبارٌ عن تحضيرات عسكرية تتمثّل بمسارات الأساطيل البحرية على مساحات المحيطات، رغم أن التركيز حصل على الخليج وكلا البحرين الأبيض المتوسط والأحمر: هل تشن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحرب المحدّدة على إيران وحلفائها؟ أين ترد إيران وحلفاؤها؟ ماذا ينتظر الإقليم؟ هل يلعبون في مساحات الحرب أم على حافة الهاوية؟.
يبدو أن تلك الأسئلة ستبقى تتمدّد في أوساط الجماهير العابرة لعواصم الإقليم. لكن الأجوبة غير محدّدة حتى الساعة، بعد أن لوحّت كلٌ من واشنطن وطهران ببعثرة قواعد الإشتباك القائمة بينهما منذ سنوات، من دون أن تصل أيٌ منهما إلى حدِّ تجاوز الخطوط الحمر عملياً. تكتفي العاصمتان باللعب على حافة الحرب، وكأن هناك موانع تقف في وجه أي قرار عسكري مُحتمل، سواء في حسابات الأميركيين أو الإيرانيين.
إذا كان المحلّلون-المنجّمون إستندوا إلى قراءة رغبة ترامب في صنع حرب تتيح له البقاء في البيت الأبيض، فكيف سيجاريه العسكر في الولايات المتحدة لتنفيذ خطة لا تخدم رؤيتهم ولا سياساتهم ولا أدوارهم ولا مواقعهم؟ هنا تواجه إدارة ترامب الراحلة أولّ مطب أميركي عميق لعدم تجاوب "الدولة العميقة" مع قراراته. لن ينفّذ البنتاغون أوامر مجهولة المصير. هذا ما تشير اليه المشاكسات القائمة بين جبهتي ترامب-"الدولة العميقة".
ايضاً، من يستطيع الحسم اساساً أن ترامب يرغب بخوض معركة مفتوحة غير مضمونة النتائج؟. كل المعطيات والمؤشرات ومنطق المسار الأميركي يؤكد ألاّ حرب كبيرة ستحصل بعيداً عن قواعد الاشتباك القائمة عبر ضربات محدّدة، كما حصل في عملية إغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني منذ عام.
من جهة الإيرانيين، لا يبدو ان هناك مصلحة لطهران بخوض معركة قاسية تعطي ذريعة لترامب كي يطحن مشاريع خلفه الرئيس المُنتخب جو بايدن. لكن هناك مصلحة للجمهورية الإسلامية الإيرانية بحرب ما، تكسر الحصار المفروض عليها، وتفرض واقعاً جديداً تبدأ به مفاوضاتها مع إدارة بايدن. لذا، يأتي إشتداد الحملات والرسائل النارية غير المباشرة عبر اليمن أو العراق، وسيزداد "الدوز" بعد طي صفحة ترامب اميركياً ودولياً.
يراهن الإيرانيون على مسار أميركي آت مع بايدن واعد بمفاوضات ورفع العقوبات، فلماذا الحاجة الإيرانية للتصعيد إذاً؟.
هناك معادلة وحيدة قائمة: يبدأ التفاوض بسقوف عالية. ومن هنا يأتي قرار طهران بعودة التخصيب النووي إلى ٢٠٪، كإشارة دالة لبايدن إلى أنها تفاوض بما لا يقل عن مجريات أعوام ٢٠١٣ و٢٠١٤ و٢٠١٥. اذا كان هذا السقف العالي لا يكفي لفرض شروط، فإن مصلحة طهران تقضي بوجود سقف أعلى هو ضربات عسكرية لا تريد ان تبدأ إيران بها، لكنها قد تستعيض عنها بتضييق القوات والمصالح الأميركية في العراق وسوريا. فهل ان الإفراج عن سجناء "داعش" هو من باب إشغال حلفاء طهران لعدم إراحتهم في إستهداف الاميركيين؟ لا ادلة واضحة على ذلك، لكن لا يمكن حصر الخطوة في إطار الصدف.
بالمختصر، اللعب قائم على حافة الحرب ولا دخول في مساحاتها المشتعلة: من يريد حرباً لا يلوّح بها طويلاً.